الثلاثاء، 21 فبراير 2017

جرعة صيانة (8).

قبل دخول المنزل بعد الوداع، أتت العربة(بوكس) التي تقل سلوى و بعض قاطني المنطقة، وضعت قدمها على الأرض و حبها للتطفل لا يزال سابحاً في فضاءات عقلها، حاولت الإسراع، لإقفال الباب قبل قدومها، إلا أنها كنائبات القدر، مُسطرُ وقوعها، تختلف مع النائبات في أنك تدفع بلاء تلك بدعوة صادقة أو صدقة تُريد بها وجه الله.
واضعة أصابعها على الباب، مانعة عملية إغلاقه، طرحت سؤالها:
- ده مختار؟ اختفيتوا فجأة،سألت عنكم قالوا جابكم هو
= أصر علينا
- أصلاً زول مواقف هو، ما بيستاهل هالة ديك والله،  داير واحدة تليق بيهو، هسة الحاصل معاهم شنو؟
= ما عندي فكرة، علاقتي بيهو ما على قدر التفاصيل دي.

كذبة أخرى، سأرافق نوال في مقعد الجحيم، لا زلت أكذب و أتحرى الكذب، كم كذبة على المرء أن يقترف حتى يُكتب عند الله كذاباً؟
أخبرتني سلمى-يوم أحداث الشغب في زواج عبدو- عن تاريخ مختار كاملاً، ابتداءً من علاقته مع عصام التي بدأت منذ زمن الطفولة عندما كان من قاطني القرية، و ما تلاه من رحيلهم لمنطقة مصنع السكر بسبب عمل والده كمهندس زراعي فيه، ثم رحيلهم بعد معاش والده لحلفا المدينة، و رغم هذا فلا يزال مرتبط بمنطقتنا بزراعة أرض زراعية كان والده قد أشتراها أثناء إقامته هنا فضاً لنزاع ورثة بين إخوة، بالإضافة لإمتلاكهم مصنعاً للأجبان في سوق حلفا، و عقارات مُتفرقة، والتي-حسب سلمى- بالنسبة لوالده تأتي في المرتبة الثانية بعد تقوى الله.
لم تخلٌ قصة سلمى من تفاصيل غراميات مختار،  و التي كانت بطلتها دائماً (هالة)، و حسب ما وصلني فهو لا يزال في حالة تواصل من نوع ما معها..

بدأت بسحب الباب قليلاً في وجه سلوى، مع (عزومة مراكبية) بدعوتها للدخول، و هذه دعوة رجوت الله أن لا تُلبى،  و كان لي ذلك، أعتذرت عن الدخول بوجود زوجها الذي يُمثل في حواراتي المُختصرة مع سلوى.. ضمير مُستتر تُقدره هي حيناً و تتجاهله أحياناً.

ظللت تلك الليلة أتقلب ذات اليمين و اليسار، تلاحقني نظرات والدتي و نظرات مختار، كلمات نوال ، قضيت الليل أجترُ كلماتي، استغفر قليلاً... ثم أستعين بـ(يا لطيف) كثيراً حتى أدركني النوم.
حلمت بوالدتي تخبرني بأن هذا جزء من عذاب الدنيا، فكيف بالآخرة؟
استيقظت فزعة، قررت قضاء الليل في الفناء(الحوش)..تمددت،  نظرت للسماء، للنجوم، بعض الشهب، و القمر يمارس معي لعبة، ما أن يلحظ توه نظراتي فيه.. حتى يختبيء خلف سحـابة.
أصبحت غريبة، بين يوم و ليلة.. سأتعوذ ، أُسلم وجهي لله، ماذا يحدث لي؟  أصبحت مُتخمة بالأحاسيس و الأفكار... أين أهرب من عقلي؟
يبدأ قُرآن صلاة الصبح، و سكينة العالم في أوجها، يُفتح نور الصالة، استطيع سماع وقع خطوات والدتي ووالدي، يتسارع وقع الحياة بعد الصلاة،يحل نور الصباح، تبدأ الهموم بالتصاغر، اندم على ليلة قضيتها تفكيراً، ثم أسرع لأعيش نهار جديد..

الاثنين، 20 فبراير 2017

جرعة صيانة (7)

الصدمة؟ ليست الكلمة التي ستفي مشاعري حقها تعبيراً، تنظر والدتي ناحيتي،  تنتظر اجابة مني، و ربما اعتراف يريحها من تفاصيل سيحاول القادمون انتزاعها كما الظفر من اللحم مني... انا اهلٌ لها، لنوال و للتفاصيل الصغيرة، ملكة الملاحظات و الدقة، سأصنع لنوال قصة، سأضغط على مواطن الألم في عقلها المستدير، أثير غيرتها، حفيظتها، استيائها، أزيد نار كرهها لي جازاً و بنزيناً و زيتاً..فلتفتح ابواب الجحيم السبعة..

يعتمل عقلي بالتفاصيل، سأصنع بطلي،  إذا كان بعض سكان الكوكب يصدق الأفلام الهندية.. فمن أين لي بالفشل؟

= في الجامعة، جاء لي أخته وقت مناقشة بحوثات التخرج، و اتعرف علي... و كلمها هي، و الباقي تاريخ زي ما بيقولوا. 

فقط هكذا، بسلاسة من دون جهد يُذكر، اصلح مختار الذي تناسيت وجوده كما يتناسى طبيب التداخلات الدوائية في وصفة طبية من 5 ادوية.. المرآه.  اصبح ينظر لي بتركيز، كمن يحاول أن يستبين ملامحي، أشعر برغبة في الإعتراف له لا أدري لماذا، و في الإعتذار لوالدتي التي أصبحت في نظرها كاذبة... و لكن تُرجِح كفة نوال.. سأواصل اللعبة. 

= جنسو شنو؟ 
بشري خالِص ليس على غرارك،  لا نشك في نسبه لإبليس، و لا في قرابته من فرعون، و لا في صداقته بأبي لهب.. 

- رباطابي. 
أعجبتني الفكرة كثيراً، اود شخصاً بهذه المواصفات،  شخص يرد عليها دون أن يتلفت للحلقة الملائكية التي تلبسها تاجاً، سيرد عليها بذكاء حتى يجف فمها. 

= و شغال شنو ده؟ 
بطل في قصتي التي أقص تفاصيلها التي أُحيك خيوطها آنياً لكِ.
- مهندس طيران.  
فاجأت نفسي، حواجب والدتي ترتفع بسؤال نوال، و تهبط بإجابتي، تلحقها نظرات جانبية طالبةً استسلامي، ثم نظرات للخارج..
تسألني أين يعمل؟ فأقرر أن أدعي تلقي مكالمة هاتفية،  اضع جوالي في وضع الطيران، افتح ملفات النغمات ثم.. تبدأ نغمتي بالصَدح، أجيبها و انا امسك الهاتف و اقربه من أذني بالقول: في سودانير.

الو.. 
اهلين نادية.. تمام؟ 

ترمقني والدتي بفيضٍ من نظرات، يتوقف مختار فجأة امام بقالة، اتبعه بنظراتي، ينزل من سيارته، لا أدري من أي شقوق الذاكرة تدفق في رأسي بيتٌ شعرٍيٌ، لا أتذكر لمن هو، فقط أحسست أنه يصفه:
(و قال الشمسُ أهدت لي قميصاً،قريبَ اللونِ من شفق الغروب)
 بتُ أُحادث نفسي شِعراً؟! مُرادف الغرابة في قاموسي، يتجه للبائع، ثم يناديني..انسى المكالمة و الشعر و تلقائياً اتجه نحوه.. 
= الحاجة بتشرب شنو عادة؟ 
- موية؟ 
= في العصائر! 
- آه..طبيعي. 
= و نوال؟ 
(عصير زقوم و حميم) 
- آ... 

اتوجه لصاحب البقالة بالسؤال: اكعب طعم عصير عندك وين؟ 
يتفاجأ مختار، يجيبني الشاب (الفي الرف التحت من التلاجة دااك، جابتو الشركة لينا لكن ما مستساغ من الناس، عايزين نرجعه.) 
- اتفضل..ده ح يناسبها. 
ذكرتني نظراته للحظة بوالدتي، قررت المغادرة لعدم أريحية شعرت بها فجأة.. اتى صوته:
= و أنتِ؟ 
- شكراً. 
= بالمناسبة،  عايز رقمك،  احتمال احتاج ليك في حبة حاجات كدة،  ينفع؟  
- ....اوكي، (09.......)،بس رن لي، تلفوني مقفول هسة بس بتصلني رسالة برقمك.. 
= (....)، نهايته (26)..

صعدت للسيارة، و نظرات نوال تنطق غيظاً، لحقني، قدم العصائر و لم ينسنِ، ثوانٍ و كادت نوال أن تبصق،  كاد الضحك أن يفضحني،  ادعيت البراءة و سألتها: 
- طعمو كيف؟  
 اجابني صمتها، طلبت من مختار أن يرفع صوت الأغنية في المذياع، صوت سيد خليفة رحمه الله.. هذا الصوت كفيل بأن يُنسيني منفى.  
     - خداك من شفق المغيب
       و آه من خديك آه
       و عيناك يكمن فيهما ليلٌ تسربل من دُجاه 
       و اكاد اسمعه يناديني، اجل هذا نداه
       و اظل اهتف من دمي، و الوجد يخفق
هل اراه. 

    من أنت يا حلم الصبا، من انت يا امل الشباب. 
    من أنت يا من رُحت أنشده و لكن لا اُجاب؟ 

بين مزارع القصب على الجهتين، ثم حواشات الأهالي التي تُزرع عادة بفول او قمح او قطن و ذرة و غيرها، و بين طريق وعر نصل لنهايته ثم نكتشف أن البعض أغلقه رغبةً منه في عدم تأثير التراب الذي تناثره السيارات على محصوله و على صوت سيد خليفة وصلنا القرية،  ليستقبلنا صهريج مياهها الذي يرتفع بين أشجار النيم و المسكيت بلونيه الأسود و الأبيض،  اوصلنا نوال، و التي الحت علينا و على ضيفنا(خصوصاً) تشريفها بشرب شاي المُغرب معها، اعتذر لها بلطف،ثم اوصلنا، لتخوض معه والدتي نفس الحوار و يرفض بلطافته التي عهدناها منه، لموعد له مع صديق، و قطع وعداً على نفسه أن يخصنا بزيارة في القريب العاجل.  






جرعة صيانة (6)

جاءت لحظات وداع المستشفى التي انتظرتها بنفاذ صبرٍ، فلكمات نوال المتلاحقة لم تؤذنِ، بل آذتني محاولات تفاديها الكثيرة، أحاول التمسُك بسلامتي العقلية و لكن من دون أن اتبع طريقها، فهنا حُفرة تقصدني بها، و تلك تقصد بها عصام، و أخرى والدي، و هكذا فالطريق خلف حديثها مُلغم.

أصر مختار على أن يوصلنا للمنزل، و تصر والدتي على العودة مع بقية من حضروا من منطقتنا،  و  في مواجهة كهذه.. الغـلبة للرجال. 
خرجنا في براحٍ عكس ذلك الذي دخلنا بين ضلوعه، فجأة تتغير ملامح العالم، يتوفر الأوكسجين، يخِف الإختناق، تبدأ حياة أخرى،  ابطالها من الكادحين، ستات شاي ،بائعات تسالي و فول سوداني يفترشن الأرض، درداقة اوانٍ منزلية يجادل بائعها إحدى النساء، بقالات و كافتيريات رأت النور منذ وقت قريب،  منذ وقت قصير تحولت بوابة المستشفى من الجهة الشرقية للشمالية، و سحبت معها الزخم البشري من جهة لأخرى،  لتصبح البوابة القديمة التي كانت تنضحٰ حياة... مجرد بوابة.  توقف مختار اشترى من بائعة ما بعضُ اكياس الفول السوداني، سرتُ خلفه متثاقلة،أحرص على أن اصقل نظراتي فلا تتخذه قبلةً. 
سبقتني والدتي و بالتأكيد نوال،  اختارت بجانب مختار مقعداً، دعوت الله سراً بمقعد في الجحيم يسعها و يزيد نيفاً، ثم استغفرت نادمةً، فعدت مجدداً لنفس الدعوة.
تتأسف والدتي كثيراً، و يمنعها مُحرجاً مختار،  و انا اراقب دفق الأكسجين إلى رأسي..قليل هو، افتح النافذة و احاول أن اصنع عالماً جديد لي في مخيلتي،  اكون فيه جذابة، إمرأة أعمال ناجحة، لا املك عيون راكون تحيطها الهالات، عالم امارس فيه طقوس الكلام بشتى اللغات، ارقص فيه بحرية، اصلي بخشوع، عالم لا يحكمني فيه ميزان في ركن الصيدلية او سعرات حرارية، عالم لا اسمع فيه نصائح و إعلانات للتخسيس،  عالم لا يتجاذبني بين طرفين متراميين، بين وزنٍ ارضي به المجتمع... و آخر أرضي به توقي للموضة. 

= ما قلتي لي يا عبير.. خطيبك لاقيتيهو وين؟ 
يبدو الصوتٌ بعيداً، اعيد ارجاع رأسي للداخل قليلاً، تعود نفس النغمة المزعجة للإرتفاع،  تُعيده عليّ نوال، اعود للواقع بقوة، يبدو أنه شعار ٌ قومي الجديد، ارتفع في أحلامك كما تشاء،فالعودة للواقع هي اختصاصنا. 

الثلاثاء، 7 فبراير 2017

جرعة صيانة (5)

كل ما تطلبه الأمر كان مجرد سؤال بـ(مَن هو)، و كادت الأمور أن تصل إلى تزويدي برقم بطاقته الشخصية، هذه بلدةٌ لا سِر فيها، كل المسألة هي من ستسأل، بل إنه في بعض احيان ليس مطلوباً إستيفاء شرط طرح سؤال للحصول على جواب في أمورٍ قد لا تعنينا البتة.
لا يهم، حصلت، على ما أريد.
أصبح له في ذاكرتي ملفاً، لا يهم اياً من ملفات الذاكرة حذفت، كل ما يهم أنني قد حجزت له مقعداً وثيراً، مقعداً يليق به.

انتهى العرس و عادت حياتي تسيرٌ في نهجها المعتاد، سافر عبدالعظيم و حرمه إلى (اسمرا)،  فالطريق إلى القفص الذهبي هنا، لا بد أن يتخذها ممراً.

عُدتُ لروتين عملي كامل الدسم، وجدت مجتبى مساعدي قد عاد قبل ايامٍ قليلة من زيارة لأقارب له بالعاصمة.
مجتبى كما ادعوه انا و شهادة الرقم الوطني،  و (تبو) كما يدعوه ابناء منطقته،  هو المجس البشري لمشاعري، قدرته على قراءتي تفوق قدرات سلوى الخارقة على معرفة الأخبار، و قدرات رجاء على التنكيد على حسن، بل و تفوق غضب صاحب الجزارة الذي يفتح محله في موقفنا من زبون أخبره نكتة سمجة عن أن(الصديق الوحيد للجزار هو.. الكلب) و غلظ في ذلك أيمانه.
يفهمني جيداً، لا ادري اصدقاء نحنٌ أم علاقة دواء، تعجبني جسارته حينما يتعلق الأمر بحياته و قص تجاربه الشخصية، غالبية من أعرفهم هكذا، انا فقط اهوى الإحتفاظ بالأسرار، بالمال،  بالطعام، الأقلام... و حتى الشحم في جسدي، أجيد الإحتفاظ بأشياء عظيمة.
اتذكر لقائي الأول به، دخل الصيدلية كسائح،خلع سماعته من أذنيه،انتقل ببصره سريعاً على الرفوف، سأل ببرود: نظام ترتيب الرفوف عندكم كيف؟
أجبته:- حسب الـmaterial condition ،يمينك الشرابات،شمالك الحبوب،و جمبها القطرات، و في القسمين حسب الpharmacological  action.
=كدة تمام، بظهر عليكم بكرة، عندي كورة الليلة.
و غـادر ببساطة، كانت هذه اولى انطباعاتي عنه، قبل ان ادرك انه بالإضافة إلى عشقه للرياضة، ينتمي لمُلّاك عقارات العصر الحديث الذين يمتلكون  في كل زقاق إلكتروني قطعة أرض، تويتر، فيسبوك، انستغرام، سناب، قوقل بلس، حتى لينكد إن و تطول القائمة،لا أدري ماذا يفعل في كل هذه المواقع.. و لا أعلم أي ملفاته التعريفية يليق بتقديمه بشكل متوازن، كوميدي من الدرجة الأولى، غالباً عندما يتشاجر و خطيبته يضع صورة مكتوبُ عليها"بعنا حبك.. و اشترينا غنم"..و يكفيني هذا تعريفاً.

 أحب عفويته، و تؤلمني سيطرته على جهاز التحكم، و تؤلمني قنواته التي يشاهدها،  فهذا رجل لا يترك نشرة كاملة او موجزاً لأخبار رياضية إلا شاهده،  قاعدته الحياتية الأولى "أن أي شيء يُعرض على القنوات الرياضية، هو شيء يستحق المشاهدة".

لحظة بعد السلام، نظرة مُستعجلة و يسألني: (الحاصل عليك شنو؟ ولا دخل حياتك زول؟) هكذا فقط في ارض اللامقدمات هذه،  لن أكذب فأخلاقي ارفع من هذا بقليل، سأتنصل، فالتنصل شيمة الجبناء الذين لا يكذبون، اخبره بشأن أحداث العنف في زواج (عبدو)،  أشكو له من أبناء إبنة خالتي هيام ، التي تركت أطفالها في حضرتي و ذهبت لأداء طقوس العودة بعد سفر، تعزي هؤلاء في والدتهم، و اولئك في ابن اخيهم، تتجاهل فلانة بسبب تجاهلها لها في عزاء والدها،  تبارك الحج لعلان.. فقانون الإجتماعيات هنا أن (العزاء بالعزاء و الفرح بالفرح... و مافي زول أحسن من زول،  و الما جانا في فلان ما يلومنا)... عدالة إجتماعية، فالعُرف الوحيد الذي ننحني له إحترامـاً و الذي يربطنا رغم بغضه هو....اللوم!
 تقاطعني استشارات دوائية  و وصفات طبية تُريحني من عناء أختلاق مواضيع طرفية مهملة...

ثوانٍ معدودة و نلمح أخصائي الجراحة الذي يتخذ من طابقنا الثاني عيادة له يهرول نحو سيارته، فُرِغت العيادة و أغلق بابها، تنزل (سوسن)  المُسجلة، حاملةً إلينا خبراً يقين عن حادث في الشارع الرئيسي،نتيجة لإصطدام عربة تقل مساجيناً في طريقهم إلى المشاركة في تنظيف الحشائش التي تنمو مع قصب السكر في المشروع، حاولت تجنب عربة كارو (يجرها حمار) تحمل خضروات من سوق الخضار، ،فاصطدمت بسيارة من موديل 87 تقل ركاباً من جهة مصنع السكر فانزلقت في جدول بجانب الطريق... هذا إعلان طوارئ من الدرجة الأولى.
كاد الدوام أن ينتهي، 5مكالمات من سلوى، 3 مكالمات من رقم غريب أقرر الرد، يأتي صوت والدتي تخبرني بضرورة اللحاق بها في المستشفى،  فإبن نجاة قريبتنا (من الدرجة الخامسة و العشرون تقريباً) من المصابين في الرأس و علينا ان نلحق بالمشفى سريعاً قبل تحويله بالإسعاف إلى مدينة كسلا لعمل أشعة مقطعية.
و هكذا وصلنا إلى المشفى، ازدحام في البوابة الرئيسية يكاد يكون خانقاً، فقد الحارس الذي يقف في البوابة السيطرة، ضاقت أخلاقه أكثر مما كانت، و ربما انتهى دفتر  تذاكر دخول  المشفى من فئة الإثنين جنيه الذي بيد (قاطع التذاكر) الذي ينتمي لذوات الدم البارد، الذي يحافظ على حيادية ملامحه رغم الضغط البشري المرتفع على البوابة. 

في كل وجهة تجد شخص تعرفه، حكايةٌ المدن الصغرى،  وجدت عصام أخي حاملاً ورقة وصفة طبية و تصديق إسعاف دلني على مكان والدتي،  لا اكاد اجد موطأ قدم،  البعض يبكي و آخرون يتناقلون الأخبار عن محاسن الجرحى، عن لحظاتهم الأخيرة قبل الحادث، البعض يستمعون إلى شهود عيان من موقع الحادث...و كلٌ في أمره و أمر غيره.

وقفت في ممر الطواريء، لم اكمل سلامي و محاولات (تصبير) والدة حمزة العبثية ثم استفساري عن حالة حمزة حتى فاجأني صوت غليظ، عاملة نظافة تسد علينا الطريق و تبدأ بالصياح:  (بالله ما تدخلوا، ديل شنو ديل... تياب الهزاز دي معلقاتنها في الباب صح؟ بس تسمعوا سيرة حادث تجوا جاريين بسفنجاتكم).؟..شكراً للمعاملة الكريمة،  أين تشتكي و لمن؟ لرب العباد. 

يخرج الطبيب، تتبعه ثلة، بالنقالة يتم إدخال حمزة في الغرفة العامة، نتبعه، يكتب الطبيب الشاب وصفة طبية أخرى، و....تُقْطَع تراتبية التفكير بصوت نواح عالٍ،شد حتى الجرحى على الأسرة المجاورة، نسي المصابين الألم و الكسر و الشق و النزف والمرافقين الهم، يتبعون الصوت و الصورة القادمين بنقاء عالي، بثوب جديد باللون الكبدي،  و حذاء مفتوح بلون نمري، و 4 خواتم ذهبية مما لا تقل عن 3 جرامات للواحد موزعة على اليدين، و عطر  فاخر يكاد يصل شذاه للغرف الأخرى، جاءت تبكي و تصيح.. (كُر عليك يا حمزة)،  (ووووب علينا من كلام الناس الما بريح)، (الله يـ.... 
= كفاية لغاية هنا،  انطمي. 
عصام و مختار بصوت واحد، أجمل مخُرجات المجتمع في مٰحاربة (نوال)، الأسطورة التي خذلها موقعها الجغرافي في هذه السافانا لتكون إحدى الأساطير الهوليوودية،  و رغم هذا فالنسخة المحلية لـ(الشيطان يرتدي ثوباً) هي وكيلها الحصري...حيث لا منافس. 
دقيقة؟... من أين يأتي هؤلاء**، لا اقصد نوال،  فمُناخ السافانا هنا لم يُمرر لها العدوى، لم تجتاح الأغبرة يوماً مشاعرها فهي دائماً متقدة بأسوأ ما يكون،  و لم يُصب جفاف الشتاء محاجر دموعها التي تتحين الفرص لتستعرض ملوحتها،  و لم تزد أمطار الخريف في روحها سوى ترسباً لطمي حقد لا مبرر له.. فقط شابهته في غياب الربيع... هذه إمرأة لا ربيع لها. 

أمرأة تضحك معك حتى باب بيت العزاء، تدخل و اكون أنا لا زلت احتفظ بباقي ابتسامة،  و تدخل هي كأنها فقدت الماً قطعة من روحها مع الفقيد. 
أذكرها جيداً، فأكثر مواقفها حفراً في ذاكرتي، هي أثناء عودتنا من عرس قريبٍ لنا من العاصمة في اواخر التسعينات،  ايام  (الكَشات)، اوقف مجموعة من العساكر العربة التي تقلنا و أنزلوا خالي عمر و الذي كان في إجازة بعد أن عاد من المملكة و معه صديقه و هو اخٌ لنوال من أجل التجنيد، اذكر بكاء جدتي ووالدتي... و بالطبع (نوال)،  و الذي اذكره اكثر من دموعها كان انها حاولت اقناعي كطفلة، أن ادّعي بنوتي أنا و اطفال آخرين لمَشْروعي التجنيد هذين(خالي و محمد)، استجاب بقية الأطفال و لم احرك ساكناً انا لطلبها، حرك ساكني صفعة اهتز لها خداي، صرخت الماً، مسكتني من يدي و بقية الاطفال و نزلت من العربة، ضغطت يدي فزدت بكاءاً..اقنعت العساكر بأننا ابناء الرجلين و انها زوجة احدهم و أن الآخر ارمل... يربيني و أخت لي،  ارته دمعي، اقتنعوا، اطلقوا سراحهما، و اتفقنا انا و هي منذ تلك النقطة على ألا نتفق ابداً...تكن لي حقد العالم و ابادلها شعوراً، هذه هي النقطة السوداء البارزة في سجلي الشخصي تجاه أحد من خلق الله...و هي كراهية غير معلنة،  تدخل كمادة سرية في تركيب معظم عباراتها، في غمزاتها،  و نظراتها.. تودني علانية و تكرهني سراً..و اكرهها سراً و اقابلها صمتاً.

لم اسأل من أين اتى مختار مجدداً، أعجبتني نهرته كثيراً لعدوة سعادتي،  صمتت نوال،  اطمأن الجميع بالنتائج الأولية، قليلة هي الإصابات الخطيرة التي استدعت طلب فحوصات اوسع، سُفّر حمزة بالإسعاف في موكب مهيب، رافقه عصام فقط حسب طلبه،  لا ادري في اي كوة كانت،  فجأة قدمت.. وقفت و قد تحرك الإسعاف.. نزلت للأرض قابضة أثراً من تراب ممر الإسعاف،  خُيلَ لي أنها ستضعه في فمها تنفيذاً لعبارة (سَف التراب)..ربطته في ثوبها الفاخر.. و انزلت دمعتين، قبل ان تلتفت لي و تُجرعني حنظلاً:
= يا كافي البلاء حتى الفحوصات إلا يسفروا ليها لي حتة تانية، لا علاج زي الناس و لا دكاترة زي الناس ، لا صيادلة زي الناس، بري بري. 

ابتلعتها،  ينفعني سُمْك جلد أحاسيسي،  اتخذت من البكتريا قدوة،  طورت مناعة. 
فليمت السُم في فم الثُعبان. 
ظهرت سلوى على غير عادتها متأخرة، بوجود نوال لا يفتقد أحداً أحد، إلا من تشير لهم هي،  وقفت سلوى و قبل أن نفرغ من رد السلام،  استأنفت:- 
الحمار مات،الكان جَاري الكارو،  و في سجين شَرد،  الدنيا مقلوبة عليهو برا. 


--------------------------------------
* فكرة الفيلم الأمريكي: The devil wears prada.
عبارة معروفة لعبقري الرواية السودانية: االطيب صالح.



الأحد، 29 يناير 2017

جرعة صيانة (4)

فَشَلت محاولة إدعاء عدم الإهتمام تلك بجدارة، فالعين على شاشة الهاتف و القلب يسجل خَطْوَهُ بإستبسال.. لا يكل و لا يهدأ.

إذاً يدعوها (سُنبلة)، تعرفهُ على صديقتها التي من طينتها و تستأذن منه للتحدث معه على انفراد... مذهولاً يبدو، يقبل بتردد ليختفيان وراء الحشد... 
أراقب أنا...يأتي شيطانٌ كآبتي ليخيم بجانبي (انتِ البعرفك منو؟)...الا يفترض بشياطيننا أن تصنع مِنّا مخلوقات (ايقوسنترية) تُقنعنا بأن العالم يدور في فلكنا؟! سأحاول تجاهل هذا الصوت أيضاً...

مرت دقائق، لا أدري خلال أيُها فقدت اهتمامي بسبر اغوار عالم أعتبره ملكي و خطفته سُنبلة مني،  شَدّ نظري مجموعة شباب يرقصون على إيقاعات أغاني الرطانة بأجمل طريقة شاهدتها في حياتي، حركات متناغمة،يميلون في نفس الوقت، سوياً يصفقون، معاً يضربون بأرجلهم الأرض، اختاروا الرقص في دائرة مُغلقة،ربما هذا هو حال الحياة ندور مروراً بنقاطٍ مُختلفة و لكننا نظل في نفس الحلقة، تذكرت قول أحدهم في برنامج تلفزيوني مُعلِقاً على رقصة تشبه هذه بالقول أنها مستوحاة من حركة البحر و الماء مداً و جزراً و حركة النخيل مع الهواء...لا أدري كم ظللت على تلك الحال،  انضم إلى تلك المجموعة اطفال من المدرسة... يتبعون القائد،  يتعلمون سريعاً هؤلاء الأطفال،متى فقدت هذه القدرة؟  
متى أصبحتُ قادرة على نسيان ماضٍ قريب، تعلق قلبي فيه و انكسر،  ننسى و لا نتعظ،  حال البشر و على رأسهم انا... 

عاد (الحبيب المُنْتظر)، لا تتبعه هالة، جاءت وحيدة من الجهة الأخرى... اسلوب تمويه أم فراق ظاهر؟  اكثرت من قراءة نظريات المؤامرة... 

تناديني سلمى للرقص،  تقترب هامسةً (عمتك سألت منك)، العبارات المفتوحة، خبرٌ مُغَلفٌ بلوم قد تتبعه معركة أخرى... لا قِبَلَ لي بحرب، سأرقص من أجل أن تراني عمتي...سأرقص حتى تهتريء أقدامي، تباً للكعب العالي، مرحباً بـ(مسمار الكعب) و أمراض الغضاريف و تَشَكُلِ العظام...كل ما يُهم هو المظهر المتناسق و بارك الله في مُسكنات الألم. 
تمسك سلمى بيدي،  كما فعلت دائماً في صغري، تختار لنا مكاناً في الصف المنتظم... و على حين غرة ينقلب اللحن و يبدأ الفنان بـ(البياح)...استُهلكت هذه الأغنية اكثر من تنفيذ رسومات كتاب(اليس في بلاد العجائب) في مكتبات بريطانيا، و انفصم وثاق الصفوف،  تفرقنا... انتشرت فوضى خلاقة.. 
جيلٌ يرقص رقص حديث، جيلٌ ينفذ حركات الجيلاني،  و آخر يغني واقفاً، يتبع اللحن حيناً و ينشز أحياناً...و إني لمن هؤلاء، علاقتي بالرقص مُعقدة جداً،  عندما اكون وحيدة ارقص كمايكل جاكسون "في اسوأ حالاته" يضيف (محمود) أخي الذي أكبره بثلاثة اعوام،  و أمام البشر لا اتحرك، فقط اتجمد، اتقن دور الثلج،  دائماً ما اعطي من أمامي إحساساً بأن الجاذبية في بقعتي هي الأعلى.. بأن الأرض تنتج اسمنتاً لإبقائي على سطحها من دون حراك... تقسم والدتي أنها عين، و يصر الخواجات على أنه رهاب اجتماعي، سأصدق أمي.  

فجأة يقف  أمامي ، هذا الرجل "ملك الفجأة"،  سيتسبب بقتلي يوماً ما،  تضحك سلمى (مُختااااااار.. ما معقول)، أشك الآن ان اسمه (مختار ما معقول).. احتاج لمرة ثالثة للتأكد،  و ...دقيقة،  حتى سلمى تعرفه؟!  
مَدَ يده بثقة، كأنه و سلمى أصدقاء سنين، مرت دقائق او ثوانٍ أحسبها سنين... ماذا أفعل ارقص؟ اقف كالصنم كما كنت؟  ام.... تقاطع سلمى لحظة الحسم تلك "نسيت أعرفك، على عبير، أختي، صيدلانية و كدة"...يا وكيلي يا الله... يبتسم لي،  للملاك ابتسامة،  مد يده و توقفت الدنيا (هو دي انتي انتي ولا واحدة تانية؟)..ثَقُلَ لساني، و ثقلت يدي،  امدها بصعوبة،  يؤلمني فكي،  ينقطع الهواء عني... أعراض ذبحة؟  ماهي الإحتمالات لشخص في سني و بأسلوب حياتي و وزني هذا؟ بعيدة؟!...اوميء برأسي فقط،  يضحك و يميل نحو سلمى سائلاً(بكماء هي؟!)...قطبت حواجبي، بدأت الآن أضعه في رأسي.. بدأ يستفز صمتي،  سأرد صمتاً و ليمُت هو حديثاً...و.. اللهم إني أعوذ بك من هذا الفأل. 
= اتقابلتوا يعني؟!  تمام طيب. 
- شبه كدة،  بس ما كنت عارفها بِتَكُم! 
=كانت في الجامعة ايام جيتنا،  و الله يا مختار يا حليلك.. 
- تحلى ليك العافية..  

يبدو لَبِقاً، لديه فن في الرد عالٍ، شيء آخر لا املكه...كيف حكمت عليه سريعاً هكذا؟  هممم لا يهم، فلي مهاراتي الخاصة...تتضمن هذه المهارات إصدار حُكم مُتطرف سريعاً، بناءً على حدث مُفرد..يعقبه تعميم على نطاق واسع،  يليه خيبةٌ أمل عظيمة...و تستمر الحياة. 
قطع تلك الوقفة صوت (سواح) خلفي،  يلبس ملابس خضراءٌ غامقة، و يضع حول رأسه ثوب هزاز قديم كان لوالدته لفه بمهارة، حاملاً في يديه (سعفةُ) نخلة...
(الحــــب مرض... ما تحبوا،  الحب مرض ما تحبوا... إنتي بالذات ما تحبي... قالوا السُمَان حسااااسين) 
- الله يقطع يومك ياخ.. قِد من هنا. 

ذهب سواح مكسوراً، رمقتني سلمى بنظرة مُبهمة..
قلت مبررةً : عامل مجنون و عايش الدور 
اجابني مختار : طلعتي بتتكلمي..!!! 

انتهت لحظة الأحلام الوردية،  لسواح تلك القدرة،  اكرهه... احتاج لأن.... اعتذر منه،  سألحقه.  

انتهت الحفلة، بعد أن عدت للجلوس في الصف الأخير،  انتهت ب(عديــلة اوو)، (مع السلامة مع السلامة)  يرد الجميع ب(اوووووو)..يودعهم الفنان ب(إن شاء الله نتلاقى بالسلامة.. الله) 

أرغب في هدوء،  في غرفة استجواب مُحكمة، في ضوء لمبة صفراء يضْربُ في وجه سلمى،  في كوب ورق رخيص فيه من قهوة عم عثمان الكثير... سأستجوبها لساعات سأجمع عنه أكثر مما جمعت أمريكا عن الجماعات المسلحة و المليشيات سـ... أفعل الكثير. 

كُرسي طائر يلوح في الأفق،  يبدأ البعض في الجري، اتفرج على المشهد كأنه في التلفاز،  تسمرت كعادتي مُنفصلةً عن تقدير عواقب جلوسي تلك... شدت والدتي يدي مُغتاظة تُلقي باللعنات على سكارى ناقمين على عبدو،  تباً لمشاهد العنف على التلفاز،  تعودت عليها حتى صرت لا افرق بين مشاهدتها و العيش فيها... جريت خوفاً لحظة استفاقتي تلك،  شامتة اعترف،  كم خرب عبدو من ذكرياتٍ لكثيرين بسبب مشاجرات مفتعلة في منتصف الحفل؟!  17 مرة حضرت انا منها 11 مشاجرة، ووصلني سمعاً بقية المرات،  عبر الهاتف من عائلتي او من (سلوى) بالتأكيد...نعم لدي سِجِلات كهذه..

هرولت لمنزل خالتي القريب من منزلنا بعد ان وصلت و عائلتي لبر الأمان، التصقت بحائط الفناء،ضحكت حتى شكت والدتي في امكانية تناولي لـمُخدر ما،  ضحكت حد الهستيريا،  و من دون أن اشعر رأيت سلمى امامي تحمل طفلها،  تضحك معي حيناً و تجامل والدتي بنظراتٍ جادة أحياناً...(معليش ماما،  انااااا مااا زعلانة ليهو... ده خارب حفلات الأمة كلها.. كويس إنها بقت في نهاية الحفلة.. احترموهو زاااتهم) 
- ما صح منك الكلام ده 
تعقبها والدتي بعشر جُمل بالنوبية.. اقرر الصمت
أعود للضحك مرة أخرى،  هذه حالة لا حول لي فيها و لا قوة،  اسأل، و يخونني السؤال: 
انتو (مختار ما معقول... ده منو؟)

السبت، 21 يناير 2017

جرعة صيانة (3)


مر شهر، و دخلت في حياتي مُنْغصات عدة، علي أن أنسى أشعة الحب، لأُجَابِهَ إشعاعات الكراهية التي تنبعث من عيني عمتي، و التي كانت تُجَهْزني طوال الوقت و منذ زمن قديم لأكون لها زوجة إبن،و الذي لولا  خوفي من الله، لحَلَفتُ بأن كلمة (فاشل) مكتوبة على جبينه بقلم (فسفوري).

منذ عودتي من الجامعة قبل سنوات، كانت تلح على والدي بضرورة أن تتم خطوبتي على غزالها، و كان والدي يتعذر بأنه يرغب في أن اتم دراستي بتركيز تام، فهو لا يزال نادم على موافقته على زواج (نهى) أختي، أثناء دراستها الجامعية،لتتعثر بسبب تَبِعات الزواج من حَمْل و مسؤولية، كان النقاش مُزعجاً و غالباً ما ينتهي بخروج عمتي من منزلنا غاضبةً. 

قبل اسبوعين فاتحني وحيدها (عبدو)  بموضوع (زواجنا)، في أكثر الأوقات خطأ في حياتي، في  صباح يوم الجمعة.. عند استيقاظي من النوم... من يفُاتِح أحد بموضوع كهذا في يوم مثل هذا؟.. حقيقةً كانت لتبدو كل الأوقات خاطئة و كل الأيام لا تَصلح لهذا الأمر.. مع شخص مثل هذا! 

لا أظلمه، فهذا شخصُ تتمثل إنجازاته الحياتية في (ختَم لعبة سوبر ماريو سبعة مرات في جلسة واحدة)، شخص ما أن تسمع صوت أطفال يبكون بصوت عالٍ في الشارع فجأة من دون مقدمات حتى تُدرك مروره في مكان الصوت، بل اكاد أجزم أن الديكة تكف عن الصياح عندما تراه.. أو ترى شياطينه على أحسن الفروض. 

اتذكر أن جدتي-رحمها الله- ربته، أقصد فطنت لموهبته الفطرية منذ صغره،في أن يكون سبباً لمشكلة أو جزءاً من صورة عامة لإحداها،  ففي الخارج كل الطرق تؤدي لروما،بينما هنا كل المشاكل تقود لعبدو او يقودها هو.. أمير الحرب و الظلام. 
نعود لجدتي(أم أبي)، التي و لتريح رأسها من حفيدها، طلبت من خالي عمر في ماضٍ ما ، والذي كان مُغترباً، بأن يُرسل لعبة هدية لـ(عبدو) بمناسبة نجاحه في سنة رابعة-بعد ان نجح بشق الأنفس بعد فشلٍ في ثلاث مرات-فأرسل له أحد إصدارات (سيقا) مع جميع ملحقات الجهاز الذي كان صرعة عظيمة في منطقتنا، مع أقراص للعبة تتضمن سونيك و سوبر ماريو و لعبة فنون قتالية... تخلصت منها جدتي لحظة استلامها للكرتونة عندما رأت صور المقاتلين على إحدى الأقراص، بعد ان انتظرت خروج المُسَلِمْ، تلفتت يساراً و يميناً، رأتني أقف أراقبها... إبتسمت لي بهدوء، كسرت الأسطوانة، وضعتها تحت مخدتها في الراكوبة، رقدت عليها كأن شيئاً لم يكن..وضعت أصبعها على فمها هامسةً لي بـ(هُس)، و أغمضت عينيها غارقةً في النوم،  أتذكر هذا الموقف كأنه حدث بالأمس...

ارتاحت تلك الاجازة كثيراً،فجميع طاقات المشاجرة التي امتلكها، تحولت لتركيز في قفزة لسوبر ماريو او طاقة جري...نسيت أن اذكر، كثرة القفزات في اللعبة تحولت لقفزات في الواقع بمرور السنين،ليست كتلك التي وصل بسببها الإنسان للقمر،  بل كتلك التي تشمل تحوله لكازانوفا، عشرات القصص الغرامية خلال أعوامه الـ(31)،فهو يقفز من غراميات مع هذه إلى أخرى مع تلك، بل و عشرات الوظائف المختلفة أيضاً، بَنَاء أحياناً، سائق أحايين أخرى، و بائع مرة ثالثة،  و سمسار في الزريبة تارةً، ثم مساعد ميكانيكي تارة عاشرة... و تطول القائمة،  لتذيلها عمله كـ(مزارع) في أملاك العائلة. 

كان رد فعل عمتي قوياً -حسب معرفتي بها- حين أخبرها بأنني (مرتبطة) بل و في حكم المخطوبة، فهاهنا لا تُطبق قوانين الديناميكا ،فـ(رد الفعل) هنا لا يساوي الفعل،  بل يفوقه بمراحل.
و تفصيلاً للواقعة، و تفسيراً لقصة (خطوبتي المزعومة) و ما أدت إليه لاحقاً.. جاء (خاطب ودي) كنت قد استيقظت للتو، لم يحاول اللف و الدوران، وضعها هكذا (بالنسبة لموضوع العرس..قلتي شنو؟)، تفاجأت فالإنتقال من أرض الأحلام (حرفياً) لهذا الكابوس من دون المرور بحالة وسطية.. يبدو غير مناسباً، أخبرته بأقرب كلمة خطرت لي( أنا مرتبطة)، هذه الكلمة التي استعنت بها عدة مرات، انقذتني من احراجات محتمة و خسرت بها صداقات عدة،أخبرني عبدو بغضب بأنه كان يشعر بأنني قد تغيرت، حتى طريقة لبسي و تصرفاتي و ضحكتي... لم اتغير،  كبرت أنا و هو ظل كما هو،  ملابسه تَكْبُر، يزداد طوله... يقف عقله في نفس النقطة. 
فجأة دخل أخي، في زيارته التفقدية المعتادة لوالديّ يوم الجمعة و حسم الأمر، أخبره بأنه قد سمع ما قلته و أن عليه أن يتقبل و يحترم كلمتي،  فأنا في حكم المخطوبة، فقد تقدم لي أحد زملائي في الجامعة قبل فترة... و أعطاه كلمة بأن ينتظر حتى لحظة لقاء الشاب بوالدي ليحسم الأمر.

انتهى عبدو مُغْتاظاً أكثر مما كان مني، خرج غاضباً،صفق الباب خلفه بقوة،  تنفست الُصعداء، ضحك عصام كاسراً جو التوتر ذلك..ثم عاد للوجوم، موجهاً نظرته نحوي(قلتي لي مرتبطة؟!) ، اتسعت عيناي اجبته ايجاباً (بنفس الشخص الذي تقدم لك من زملائي)..ضحك، ظهرت والدتي عاتبةً، لم تقل شيئاً، صَبَحْت على عصام ببرود ثم اتجهت للمطبخ، فاليوم جمعة و الحصة (قراصة) بالدوكة و (دمعة) و جَمْعة أهل... ستتغيب عنها بالتأكيد عمتي و أبنها و بناتها الاثنتين..و بعضُ أمي و مزاحها، فهذه المواجهة كانت بالنسبة لها ايذانٌ بحرب جديدة،لا تُخَلِف قتلى و جرحى إنما شِقاق،فهؤلاء ملكوك حربٍ و نحن دُعاة سلام..

مر اليوم بخير نسبياً، فعمتي خيبت ظني و حضرت،  و ليتها لم تفعل،  باركت لي ببرود و أعلنت لمن لا يعلم من عائلتي بخطوبتي، تعشق هذه المرأة قراءة وجوه الناس بعد أن تخبرهم بأمر ما، و ما بين عاتب و مُبارِكٍ و سائل في التفاصيل.. قضيت الغداء احاول تأليف قصة مُملة ذات تفاصيل مُبهمة علها تُنسى سريعاً، إلا أن التفاصيل هنا لا تُنسى... يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل.. 
ثم و للمفاجأة، أعلنت أنها قد خَطَبت لإبنها ابنة المرحوم عثمان (رحمه الله) و قد كان تاجراً بمدينة عطبرة زمناً قبل أن تسوقه الحياة ليعود لحلفا الجديدة-مسقط رأسه- بعد وفاة زوجته (فاطمة)، فرغب بأن تتولى عائلته شأن البنات و توأم في الثانية عشر، ترك تجارته لإبنه الأكبر وانتقل إلى هنا، و بعد عامين وافته المنية. 

كيف قبلت (نمارق)  به،  و كيف تمت الخطوبة بهذه السرعة.. لا ادري،  و لا ارغب في ذلك.. يكفيني فرحاً بأن ادرك بأن هذه الغيمة.. تمُرْ.

هكذا اذن حُدد الزواج بعد شهر واحد فقط، و بدأ الجو العام لفرحِ في العائلة يلوح في أفقي، كان علي من أجل أن أثبت أنني سعيدة ومن اجل ترميم الصدع، أن اقوم بزيارات يومية، اسأل بشغف عن تفاصيل لم تكن لتهمني حتى لو كان زواجي،  أضحك لأشياء من الصعب أن تحرك أهداب الضحك عندي في الحالة الطبيعية، ورغم هذا فرضـا عمتي غايَةٌ لا تدرك، ولا اسعى له..كل هذا من اجل والدي و جو صحي عام! 

الا تُنْسي كل هذه التفاصيل الكثيرة المعاني المقررة للأشياء؟! عُمال لترميم الغُرف، آخرون للسباكة، اوانٍ جديدة تُشْتَرى، مفارش جديدة، شراشف جديدة، ستائر جديدة، ملابس جديدة للبنات لحفلات العرس العديدة، شراء بهارات، سحن البهارات...و هكذا،  كل شيء يُجدد و يبقى عبدو كما هو...

يتوافد الأهل من كل مكان، تقام حِنة العريس الأولى بإصرار عماته،يصر على عدم وضع الحناء على قدميه،  يقنعه أصدقائه... لـ(عبدو) أصدقاء؟ ..تغني بنات العائلة.. الإضاءة في الفَناء سيئة، يستعينون بأضواء الهواتف، توزع التسالي و (الفول السوداني)، القونقليز، الفواكه التي احضرتها خالتي ليلى من مدينة (كسلا)،  لا ادري ما السر في أن تُحضر الفواكه من هناك مسافة ساعتين، و هي هنا متوفرة بنفس الجودة و نفس الأسعار... بل بأسعار أقل أحياناً. 
ثم أخيراً، اليوم المُنتظر، زواج (عبدالعظيم) بعد شهر من التجهيزات، لا ادري خلاله كم مرة قطعت المسافة من منزلنا إلى منزلهم الذي يبعد عنا مسافة 7 دقائق، و كَم و عشرون عاماً لم ادري خلالها بأن اسمه عبدالعظيم!
  
الدعوة فطور، يزدحم البيت، يمتليء بأهلنا من كل مكان و أصدقاء العائلة و آخرون لا أعرفهم ،رُكبت الصيوانات، حضرت (سلمى) أختي الكبرى من (دُنْقُلا) و التي ما ان دخلت المنزل حتى أُطلقت الزغاريد.. دخلت ترقص حاملة مولودها ذا الستة أشهر، تُجْمِع العائلة على حبها و أعشقها أنا... فلسلمى تأثيرها، و رغم لسانها الطويل فهي مُبلسمة جروح قل مثلها، سلمى هي مفتاح والدتي،  فمهما استعصت الأمور يكفي منها اتصال لتضع الأمور في نصابها، هي واسطتي إذن.. بل واسطة البيت كله عندما يتعلق الأمر بوالدتي... و اليوم سأرتاح أنا،  ستملء هي كل الفراغات، سترقص عني، سترد عني، ستدخل في أعين من لا يعجبها.. هكذا هي..مريحُ حضورها . 
انتهى الفطور، شُرب الشاي، جُمعت الأواني للغسيل، تفرق بعض الضيوف و بقي آخرون للحفلة... 

بدأت الحفلة، لبست فستاناً باللون الأسود فيه دوائر ذهبية، انزلت خصلتين من شعري، وضعت طرحة شيفون و كنت جاهزة.. لحظات هي و بدأ الفنان بالغناء،  حضر العرسان، سلمتني (سلمى) صغيرها و ذهبت للمنتصف...يتحرك المصور برتابة، يُصور جميلةٍ ما،  ثم يمر فوقي مرور الكرام لجميلةٍ أخرى... ما بال هؤلاء يقرأون من نفس الكتاب؟  لاحظت سلمى اهتمامه بالجميلات، تركت الحفلة و حضرت للتوبيخ، نقرت بإصبعها على كتفه، ارتبك الرجل للحظة، التفت.. اشرت له علي(شُفت اللابسة الأسود بالذهبي دي؟ دي اهم من العرسان زاتم،الفيديو ده ماشيين نحضرو نحن...السمحات البتصور فيهن ديل مافي زول بِعْرِفِن، صور ناسنا) و بدأت تؤشر على (ناسنا)..من تُكن لهم الود و...نفذ المصور الأوامر، استلمت رضيعها و بدأ بتصويري...رفعت رأسي للحظة ملتفتةً لليسار...توقفت عن التنفس، فغرت فاهي....صمت الضجيج، و كان هو...بشحمه و لحمه ينظر في اتجاهي...او اتجاه من يجلس في جهتنا..من الصعب الجزم...
عُدت للواقع...في اللحظة التي صدح فيها الفنان بـالنوبية:- 
نِلِسِي نِلِسِي نِلسي نِلسي...أِلِسي أِلسي أِلِسِي أِلِسِي***1

أكملت دون أن أشعر:- 
وو دَلِكْو وو مونكو...أوكِرن أوكرن آي دلوسي***2

لم تكمل لحظة السعادة تلك، قطعتها صرخة إحدى دُمى الباربي بجانبي صارخة: (مُخْتــــار!!!  ما معقول)...

يا الله، غير المعقولة أنتِ، كيف لي أن انافس هذه؟  ثم اسمه مُختار... لم اتخيل هذا أيضاً...ها هو مُتقدماً نحونا و....هاتفي، يرن؟  لأ... علي أن انشغل به..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: رأيته، رأيته، رأيته... وجدته،  وجدته وجدته! 
2: يا من تحبونني و يا من لا تطيقونني أسمعوا أسمعوا.. انا أحببت. 

الثلاثاء، 17 يناير 2017

جرعة صيانة (2).

                     "علاج الملل هو الفضول،أما الفضول فلا                                    علاج له" 
                                                    دورثي بـاركر. 

أيام مضت على لقاء خلف في عقلي نثارة سحرية بألوان متعددة، شَغلت حيز الملل في قلب خاوٍ، ايام متُشابهة في الظاهر و في القلب ترقُب و..جُبن، فمحاولات وضع الأقدام على الأرض بعد التحليق لمسافة، مهمة شاقة. 

اعتدت الملل و الفراغ بكل ضُروبِهما، رغم أن في حياتي (سلوى)، جارتي،  و رغم أن السائد بأن للمرء من اسمه نصيب.. إلّا أنها تحيرني..فلا أعلم هي (سلوى) لمن!

فسلوى هذه هي (قناة) قريتنا،القرية التي تبعد عن المدينة التي بها الصيدلية التي اعمل فيها مسافة نصف ساعة. فما يحدث في أي ركن أو بجانب أي دكان او تحت اي شجرة أو في اي فَسَحة.. تعرفه،  لا أدري كيف،  و الأَمَرْ لا أدري لِما. 
او ربما أدري إلا أن لعقلي طريقته في نكران وجود مخلوقات مثلها.

ظننتُ في وقت ما بأن لسلوى (جماعة)*، فدقة المعلومات عندها تحيرك،  ولا يهم في أي بقعة هي في الكرة الأرضية، حتى تصلها أخبارك، و تخبرك هي بسماعها لها. 

اذكر أنني في الخريف الماضي و تحديداً في يوم إثنين، تخلفت عن الذهاب للعمل بسبب المطر الشديد، لاتفاجأ بإتصال من أختي التي تسكن في مدينة (القضارف) تستجوبني بشأن مُلابسات طيران (راكوبة) بيتنا الخارجية بسبب الهواء المصاحب للمطر و هو ما لم يكن يعرفه أيُ منا نحن القابعون في المنزل... و عرفته سلوى التي كانت في إجازة بالعاصمة التي تبعد عنا مسافة 7 ساعات!!!  

توقفتُ قبل فترة من الزمن عن محاولات فهم السلوك البشري، بالرغم من إمكانياتي العظيمة في التنبوء بتصرفاتهم... و التي كسبتها في معظم الوقت من معرفتي المُسْبَقة بهم...ليس كأنني أمتلك ذكاءً أو ما شابه،  فمعظم نتائج إختبارات الذكاء التي خضتها على الإنترنت كانت نتيجتها(ذكاء متوسط)، لا يزعجني الأمر بتاتاً..فأنا متوسطة جمال،متوسطة أناقة،  متوسطة...كل ما اعرفه عني بالتقريب.

وقفت أمام منزلنا بعد يوم عمل آخر و أيام من ذلك اللقاء القصير، خائرة القوى أبحث-رغم التعب-بسرعة عن المفتاح في حقيبتي، سَلم علي (سيد اللبن)  عند طرف الشارع،  فاجبرني على الرد بصوت مرتفع لبعد مسافتي عنه، فحدث ما كنت أخشاه، و ابتهل لكي لا يحدث، فما هي إلا 30 ثانية بالضبط حتى ...فُتِحت كوة الجحيم،  ها هي نصف ساعة من عمري ستذهب هباءً، بخطى متلاحقة قدمت سلوى... لتقديم الموجز كاملاً،  من خُطبت من الفتيات و من تشاجر مع زوجته و ارتفعت اصواتهما... و حتى حمار من وطأ الشارع و اتخذ من جانب بيتها مُراحاً بعد أن أصابه الجرب..و تخلى عنه أصحابه. 

أخبرتني بقدوم خالها(مهدي) و زوجته و ابناءه لزيارتها في الأيام القادمة، بعد أن أخبرتني بجميع العناوين الرئيسة عن تاريخهم الحافل.. حين تذكرت -هي- بعد نصف ساعة من الحديث المطول بأنني مًُرهقة و أن عليها أن تدعني ارتاح بعد يوم عملي المرهق هذا و الذي تعكسه "حجم المسامات في وجهي و سواد ما تحت عيني" حسب قولها، مع وعد باللقاء بعد المغرب، نظرت لساعة هاتفي.. دثرني الهم.. بعد المغرب، أي بعد ساعة فقط... يا إلهي أحتاج لحبتين من البندول!  

كثيراً ما عبرت أمي عن قلقها من تناولي الكثير للبندول في الفترة الماضية.. ما لم تدركه والدتي أن زيادة تناولي له هي رد فعل طبيعي على أثر سلوى علي و صحتي العامة.  
و ما لا تدركه و الدتي بأنني نويت في حالة أصابتي ب(تنخر كبدي) -لا قدر الله- بأن أُقاضي سلوى و سأدفعها تكاليف علاجي و.... سأوقف تناول البندول..ساحاول على الأقل. 


مشاعر رتيبة، تتخللها نوبات من سعادة قصيرة،هذه هي حالي بعد لقائي به..
حتى عندما يطرأ في حياتي جديد.. يتحول بي لروتين ممل، أفكر كل يوم في نفس الأشياء (الجديدة)، أضع نفس الإحتمالات(الجديدة)،اترقب بنفس الطريقة حتى يأخذ الملل مني مأخذه فيصبح ما كان بالأمس جديداً..اليوم روتيناً.فأظل ادور في نفس الحلقة! 
كل البشر هكذا..ام انا فقط؟! 
.كل ما يدور في فلكي أُلبسه مللاً..هذه هي مَلَكَتي الخاصة. 

حين طرحتُ ظهري على سريري اليوم، تذكرت للحظات سلوى... ماذا لو كان أحد أبناء خالها (مهدي)  هو... واهبي ابتساماتي؟!  

طردت الفكرة من رأسي، مع الإبقاء على الحد الأدنى من تفاؤل يضمنه لي دستوري الخاص... 

ربما بعد كل شيء.. متوسطة في كل شيء إلا.. الخيال!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جماعة**: أي من الجـِن. 


الأحد، 15 يناير 2017

جرعة صيانة (1)

تجري الأيام بسرعة، مؤمنة أنا بأن عدد ساعات اليوم ...اليوم، أقل منها قبل عشرون عاماً ربما.. و لكن ما أدراني أنا! 
نظرت حولي فجأة لأستدرك أنني قضيت في هذا المكان أربعة أعوام... يا إلهي، فاجأني أحدهم اليوم في الصيدلية بقوله أنه زارني و أخذ (تركيبة) لحساسية المت به و تعاونت مع زوجته عليه لتفقده سكينة النوم و اعقب حديثه بالقول أن(التركيبة) (نفعت)، و كان من المفترض أن يعود ليقابلني حسب طلبي (قبل عامين).. إلا أنه اعتذر بإنشغاله حينها..و طلب مُسكناً لألم ظهر لزوجته و خرج.
صدقني... لم أكن لأتذكر هذا، أعاني من ذاكرة انتقائية، تختار و تصطفي ما يحلو لها لتحجز له فيها مقعد... و لكني تفاجأت،  عامين؟! خرج الرجل دون أن أشاركه خواطري، غير أنني فكرت أن ابحث عن نفسي في مرآة، لا أدري لماذا،أخرجت مرآتي من حقيبة يدي.. تمعنت في وجهي،  هذه هي... تجعيدة صغيرة بجانب فمي...غريبة هذه الحياة، ادفع ثمن(لطافتي) و كثرة ابتساماتي ب(تجعيدة)..لا يهم مجرد خط زمني آخر، اليوم هذه و غداً (شيبة) و بعدها..احتاج لمقشر يَلْطفُ ببشرتي،لِمُرطِبْ، لواقٍ شمسي، لــ...إلهي،  لراحة بالٍ!
انزلت مرآتي إلى داخل حقيبتي، رفعت رأسي بإطمئنان.. تفاجأت به، مبتسماً إبتسامة تليق بعدو شامت..أحسست بأنه سمع افكاري، بأن نظره يخترقني، بأنني أود أن... أغلق نوافذ روحي التي يطل بي عليها... بأنني.. احتاج لأتنفس..
= (أخدي نفس.. ما تقومي تقعي).
جررت نَفَسِي بهدوء نزولاً عند طلبه،و طلب عقلي للهواء،  جمعت أطراف مشاعري.. سألت نفسي(إنسُ ام جان في صورة ملاك؟!)
=(داير رانسيد (300).. عندكم؟!)
- ناولته صامتة، غريبة حروف اللغة..تخذلني كثيراً..أعرف أشخاص مثلها، يعاملونني بهذا الجفاء.
مد لي قيمة العلاج صامتاً، وضعته في الدرج.. ثم أنصرف، بكل هدوء كما أتى، لا يُسمع له وقع أقدام.. خرجت من(الكاونتر) للجهة الأخرى، كالمنومة مغناطيسياً، كنت أقف هناك لأتاكد..(هل هو من أصحاب الظل؟)**
ماذا دهاني.. لا أدري،  بل أوقن بأن حياتي بعد هذا اليوم لن تعود كما كانت.
نسيت أن اذكر بأنني أملك قدرات على تهويل الأمور في عقلي بشكل مبالغ فيه، فكما خط الزمن على وجه ال26 عاماً هذا التجعيدة.. أوقن بأن (دراما) ما حضرتها في زمن قاصٍ قد آتت أًُكلها...فحولتني لــ...هذه الشخصية.
يتجه إلى سيارة، فجأة توقف..وضع يده على جيبه، اكمل تفتيش جيوبه، استدار ناحيتي.. لا أدري متى وجدت نفسي خلف الكاونتر من جديد.. شكراً قدمي.. خذلني لساني و حروفي قبل لحظات و... انقذتني أقدامي، هل رآني؟! يا إلهي..ما بالي اليوم اتصرف بغرابة؟! سألوم قهوة (عم عثمان) الصباحية،  فقد كانت عكرة..
عاد بخفة،  كنت قد أعطيته ظهري إدعاءاً بأنشغالي...فاجأني بكلمة (المفتاح)..أخذ شيئاً من زجاج الكاونتر و... خرج.
مارست هوايتي المفضلة أمامه (الصمت)..و لكن ماذا كان بإمكاني أن أقول، كُنتُ لأصنف أي كلام يصدر مني بأنه...(حماقة).
قاطعت روشتة مرمى نظري، استيقظتُ، مفعول الروشتات على عقلي مذهل، يفوق أثر الكافيين في صباحاتي التَعِبة، استجمعت عقلي، ركزت.. تلقائياً امتدت يدي بتحضير المطلوب..انتهت توجيهات طريقة إستخدام الدواء.. خرج مرافق المريض.. فعدت لطريقي قبل دقائق.. من كان ذلك؟!