الثلاثاء، 7 فبراير 2017

جرعة صيانة (5)

كل ما تطلبه الأمر كان مجرد سؤال بـ(مَن هو)، و كادت الأمور أن تصل إلى تزويدي برقم بطاقته الشخصية، هذه بلدةٌ لا سِر فيها، كل المسألة هي من ستسأل، بل إنه في بعض احيان ليس مطلوباً إستيفاء شرط طرح سؤال للحصول على جواب في أمورٍ قد لا تعنينا البتة.
لا يهم، حصلت، على ما أريد.
أصبح له في ذاكرتي ملفاً، لا يهم اياً من ملفات الذاكرة حذفت، كل ما يهم أنني قد حجزت له مقعداً وثيراً، مقعداً يليق به.

انتهى العرس و عادت حياتي تسيرٌ في نهجها المعتاد، سافر عبدالعظيم و حرمه إلى (اسمرا)،  فالطريق إلى القفص الذهبي هنا، لا بد أن يتخذها ممراً.

عُدتُ لروتين عملي كامل الدسم، وجدت مجتبى مساعدي قد عاد قبل ايامٍ قليلة من زيارة لأقارب له بالعاصمة.
مجتبى كما ادعوه انا و شهادة الرقم الوطني،  و (تبو) كما يدعوه ابناء منطقته،  هو المجس البشري لمشاعري، قدرته على قراءتي تفوق قدرات سلوى الخارقة على معرفة الأخبار، و قدرات رجاء على التنكيد على حسن، بل و تفوق غضب صاحب الجزارة الذي يفتح محله في موقفنا من زبون أخبره نكتة سمجة عن أن(الصديق الوحيد للجزار هو.. الكلب) و غلظ في ذلك أيمانه.
يفهمني جيداً، لا ادري اصدقاء نحنٌ أم علاقة دواء، تعجبني جسارته حينما يتعلق الأمر بحياته و قص تجاربه الشخصية، غالبية من أعرفهم هكذا، انا فقط اهوى الإحتفاظ بالأسرار، بالمال،  بالطعام، الأقلام... و حتى الشحم في جسدي، أجيد الإحتفاظ بأشياء عظيمة.
اتذكر لقائي الأول به، دخل الصيدلية كسائح،خلع سماعته من أذنيه،انتقل ببصره سريعاً على الرفوف، سأل ببرود: نظام ترتيب الرفوف عندكم كيف؟
أجبته:- حسب الـmaterial condition ،يمينك الشرابات،شمالك الحبوب،و جمبها القطرات، و في القسمين حسب الpharmacological  action.
=كدة تمام، بظهر عليكم بكرة، عندي كورة الليلة.
و غـادر ببساطة، كانت هذه اولى انطباعاتي عنه، قبل ان ادرك انه بالإضافة إلى عشقه للرياضة، ينتمي لمُلّاك عقارات العصر الحديث الذين يمتلكون  في كل زقاق إلكتروني قطعة أرض، تويتر، فيسبوك، انستغرام، سناب، قوقل بلس، حتى لينكد إن و تطول القائمة،لا أدري ماذا يفعل في كل هذه المواقع.. و لا أعلم أي ملفاته التعريفية يليق بتقديمه بشكل متوازن، كوميدي من الدرجة الأولى، غالباً عندما يتشاجر و خطيبته يضع صورة مكتوبُ عليها"بعنا حبك.. و اشترينا غنم"..و يكفيني هذا تعريفاً.

 أحب عفويته، و تؤلمني سيطرته على جهاز التحكم، و تؤلمني قنواته التي يشاهدها،  فهذا رجل لا يترك نشرة كاملة او موجزاً لأخبار رياضية إلا شاهده،  قاعدته الحياتية الأولى "أن أي شيء يُعرض على القنوات الرياضية، هو شيء يستحق المشاهدة".

لحظة بعد السلام، نظرة مُستعجلة و يسألني: (الحاصل عليك شنو؟ ولا دخل حياتك زول؟) هكذا فقط في ارض اللامقدمات هذه،  لن أكذب فأخلاقي ارفع من هذا بقليل، سأتنصل، فالتنصل شيمة الجبناء الذين لا يكذبون، اخبره بشأن أحداث العنف في زواج (عبدو)،  أشكو له من أبناء إبنة خالتي هيام ، التي تركت أطفالها في حضرتي و ذهبت لأداء طقوس العودة بعد سفر، تعزي هؤلاء في والدتهم، و اولئك في ابن اخيهم، تتجاهل فلانة بسبب تجاهلها لها في عزاء والدها،  تبارك الحج لعلان.. فقانون الإجتماعيات هنا أن (العزاء بالعزاء و الفرح بالفرح... و مافي زول أحسن من زول،  و الما جانا في فلان ما يلومنا)... عدالة إجتماعية، فالعُرف الوحيد الذي ننحني له إحترامـاً و الذي يربطنا رغم بغضه هو....اللوم!
 تقاطعني استشارات دوائية  و وصفات طبية تُريحني من عناء أختلاق مواضيع طرفية مهملة...

ثوانٍ معدودة و نلمح أخصائي الجراحة الذي يتخذ من طابقنا الثاني عيادة له يهرول نحو سيارته، فُرِغت العيادة و أغلق بابها، تنزل (سوسن)  المُسجلة، حاملةً إلينا خبراً يقين عن حادث في الشارع الرئيسي،نتيجة لإصطدام عربة تقل مساجيناً في طريقهم إلى المشاركة في تنظيف الحشائش التي تنمو مع قصب السكر في المشروع، حاولت تجنب عربة كارو (يجرها حمار) تحمل خضروات من سوق الخضار، ،فاصطدمت بسيارة من موديل 87 تقل ركاباً من جهة مصنع السكر فانزلقت في جدول بجانب الطريق... هذا إعلان طوارئ من الدرجة الأولى.
كاد الدوام أن ينتهي، 5مكالمات من سلوى، 3 مكالمات من رقم غريب أقرر الرد، يأتي صوت والدتي تخبرني بضرورة اللحاق بها في المستشفى،  فإبن نجاة قريبتنا (من الدرجة الخامسة و العشرون تقريباً) من المصابين في الرأس و علينا ان نلحق بالمشفى سريعاً قبل تحويله بالإسعاف إلى مدينة كسلا لعمل أشعة مقطعية.
و هكذا وصلنا إلى المشفى، ازدحام في البوابة الرئيسية يكاد يكون خانقاً، فقد الحارس الذي يقف في البوابة السيطرة، ضاقت أخلاقه أكثر مما كانت، و ربما انتهى دفتر  تذاكر دخول  المشفى من فئة الإثنين جنيه الذي بيد (قاطع التذاكر) الذي ينتمي لذوات الدم البارد، الذي يحافظ على حيادية ملامحه رغم الضغط البشري المرتفع على البوابة. 

في كل وجهة تجد شخص تعرفه، حكايةٌ المدن الصغرى،  وجدت عصام أخي حاملاً ورقة وصفة طبية و تصديق إسعاف دلني على مكان والدتي،  لا اكاد اجد موطأ قدم،  البعض يبكي و آخرون يتناقلون الأخبار عن محاسن الجرحى، عن لحظاتهم الأخيرة قبل الحادث، البعض يستمعون إلى شهود عيان من موقع الحادث...و كلٌ في أمره و أمر غيره.

وقفت في ممر الطواريء، لم اكمل سلامي و محاولات (تصبير) والدة حمزة العبثية ثم استفساري عن حالة حمزة حتى فاجأني صوت غليظ، عاملة نظافة تسد علينا الطريق و تبدأ بالصياح:  (بالله ما تدخلوا، ديل شنو ديل... تياب الهزاز دي معلقاتنها في الباب صح؟ بس تسمعوا سيرة حادث تجوا جاريين بسفنجاتكم).؟..شكراً للمعاملة الكريمة،  أين تشتكي و لمن؟ لرب العباد. 

يخرج الطبيب، تتبعه ثلة، بالنقالة يتم إدخال حمزة في الغرفة العامة، نتبعه، يكتب الطبيب الشاب وصفة طبية أخرى، و....تُقْطَع تراتبية التفكير بصوت نواح عالٍ،شد حتى الجرحى على الأسرة المجاورة، نسي المصابين الألم و الكسر و الشق و النزف والمرافقين الهم، يتبعون الصوت و الصورة القادمين بنقاء عالي، بثوب جديد باللون الكبدي،  و حذاء مفتوح بلون نمري، و 4 خواتم ذهبية مما لا تقل عن 3 جرامات للواحد موزعة على اليدين، و عطر  فاخر يكاد يصل شذاه للغرف الأخرى، جاءت تبكي و تصيح.. (كُر عليك يا حمزة)،  (ووووب علينا من كلام الناس الما بريح)، (الله يـ.... 
= كفاية لغاية هنا،  انطمي. 
عصام و مختار بصوت واحد، أجمل مخُرجات المجتمع في مٰحاربة (نوال)، الأسطورة التي خذلها موقعها الجغرافي في هذه السافانا لتكون إحدى الأساطير الهوليوودية،  و رغم هذا فالنسخة المحلية لـ(الشيطان يرتدي ثوباً) هي وكيلها الحصري...حيث لا منافس. 
دقيقة؟... من أين يأتي هؤلاء**، لا اقصد نوال،  فمُناخ السافانا هنا لم يُمرر لها العدوى، لم تجتاح الأغبرة يوماً مشاعرها فهي دائماً متقدة بأسوأ ما يكون،  و لم يُصب جفاف الشتاء محاجر دموعها التي تتحين الفرص لتستعرض ملوحتها،  و لم تزد أمطار الخريف في روحها سوى ترسباً لطمي حقد لا مبرر له.. فقط شابهته في غياب الربيع... هذه إمرأة لا ربيع لها. 

أمرأة تضحك معك حتى باب بيت العزاء، تدخل و اكون أنا لا زلت احتفظ بباقي ابتسامة،  و تدخل هي كأنها فقدت الماً قطعة من روحها مع الفقيد. 
أذكرها جيداً، فأكثر مواقفها حفراً في ذاكرتي، هي أثناء عودتنا من عرس قريبٍ لنا من العاصمة في اواخر التسعينات،  ايام  (الكَشات)، اوقف مجموعة من العساكر العربة التي تقلنا و أنزلوا خالي عمر و الذي كان في إجازة بعد أن عاد من المملكة و معه صديقه و هو اخٌ لنوال من أجل التجنيد، اذكر بكاء جدتي ووالدتي... و بالطبع (نوال)،  و الذي اذكره اكثر من دموعها كان انها حاولت اقناعي كطفلة، أن ادّعي بنوتي أنا و اطفال آخرين لمَشْروعي التجنيد هذين(خالي و محمد)، استجاب بقية الأطفال و لم احرك ساكناً انا لطلبها، حرك ساكني صفعة اهتز لها خداي، صرخت الماً، مسكتني من يدي و بقية الاطفال و نزلت من العربة، ضغطت يدي فزدت بكاءاً..اقنعت العساكر بأننا ابناء الرجلين و انها زوجة احدهم و أن الآخر ارمل... يربيني و أخت لي،  ارته دمعي، اقتنعوا، اطلقوا سراحهما، و اتفقنا انا و هي منذ تلك النقطة على ألا نتفق ابداً...تكن لي حقد العالم و ابادلها شعوراً، هذه هي النقطة السوداء البارزة في سجلي الشخصي تجاه أحد من خلق الله...و هي كراهية غير معلنة،  تدخل كمادة سرية في تركيب معظم عباراتها، في غمزاتها،  و نظراتها.. تودني علانية و تكرهني سراً..و اكرهها سراً و اقابلها صمتاً.

لم اسأل من أين اتى مختار مجدداً، أعجبتني نهرته كثيراً لعدوة سعادتي،  صمتت نوال،  اطمأن الجميع بالنتائج الأولية، قليلة هي الإصابات الخطيرة التي استدعت طلب فحوصات اوسع، سُفّر حمزة بالإسعاف في موكب مهيب، رافقه عصام فقط حسب طلبه،  لا ادري في اي كوة كانت،  فجأة قدمت.. وقفت و قد تحرك الإسعاف.. نزلت للأرض قابضة أثراً من تراب ممر الإسعاف،  خُيلَ لي أنها ستضعه في فمها تنفيذاً لعبارة (سَف التراب)..ربطته في ثوبها الفاخر.. و انزلت دمعتين، قبل ان تلتفت لي و تُجرعني حنظلاً:
= يا كافي البلاء حتى الفحوصات إلا يسفروا ليها لي حتة تانية، لا علاج زي الناس و لا دكاترة زي الناس ، لا صيادلة زي الناس، بري بري. 

ابتلعتها،  ينفعني سُمْك جلد أحاسيسي،  اتخذت من البكتريا قدوة،  طورت مناعة. 
فليمت السُم في فم الثُعبان. 
ظهرت سلوى على غير عادتها متأخرة، بوجود نوال لا يفتقد أحداً أحد، إلا من تشير لهم هي،  وقفت سلوى و قبل أن نفرغ من رد السلام،  استأنفت:- 
الحمار مات،الكان جَاري الكارو،  و في سجين شَرد،  الدنيا مقلوبة عليهو برا. 


--------------------------------------
* فكرة الفيلم الأمريكي: The devil wears prada.
عبارة معروفة لعبقري الرواية السودانية: االطيب صالح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق