الثلاثاء، 2 يناير 2018

جرعة صيانة (9)

"تعلم أن تصغي فإن دقات الحظ على الأبواب خافتة" 
                                           = أنيس منـصور 


الرتابة قد تكون محصلة دقيقة لتفكيرنا، نحاول جاهدين التخلص منها ثم نسقط في فخاخ جرعات التفكير الزائدة و آثارها الجانبية.                                                       
طغى الحديث عن الحادث و هروب السجين  على حوارات هذه الأيام،فرغم ما تلقيه الحياة هنا على الكاهل من أعباء إلا 
إن متسعاً على الكاهل المتخم سلفاً موجودُ دائماً لقصص عابرة صغيرة تُصبح بقدرة قادر كبيرة و شيقة و قادرة على ولادة قصص جديدة.....و تستمر الساقية بالدوران. 

= قالوا دخل القصب،  تاني ما معروف يتلقي ولا لا.  
  - يا زول، والله في ناس قالوا شايفينوا في الطريق لي كسلا،  لو لحق الشرق ده تاني ما بيلموا فيهو. 


جزء من حوارات عشاق القصص البوليسية، فجأة قصُر الطريق إلى الصيدلية وسط هذه الحكاوي... لا إرادياً سقطت في فخ (ماذا لو؟) 
  - ماذا لوو أتى الصيدلية ووقف أمامي مُصاباً بضربة في الرأس أو كان ينزف، او....أصبحت من أولي الخيال الخصب... طوبى لي.  


دخلت الصيدلية،  ألقيت السلام، بحثت عن ريموت التلفاز لا أدري لماذا، أخرجت هاتفي، من حقيبتي،  لا أدري لماذا أيضاً، أمسكت كلاهما.. شعرتُ بالقوة،  بحثتُ عن نشرة إخبارية،  أصابتني فكرة أن العالم لا يدري بوجودنا حتى في هذه البقعة بفرحة زائفة...عما أبحث في التلفاز... لا أدري،  أغلقته وسط تذمر من حولي،  فتحت هاتفي المفتوح أصلاً....قررت أنني بحاجة إلى قهوة.. قهوة مجردة ...من كل شيء.  

رن هاتفي، نغمة  مملة، منذ السنة الجامعية الثانية لم أغيرها،  الرقم على الشاشة كان أي شيء سوى ممل.... مختار.  .
عادت لقلبي لوثته الحسية،  أدقق في الأرقام لا أدري ماذا يريد...أجبت و كان الرنين قد إنتهى... سوء التصرف،  نقص بديهة، كبكبة...تتعدد المسميات و المعنى واحد....أضعت اتصاله. 
سيء حظي...تذكرت قول أحدهم (سوء الحظ هو عقدة نفسية) *...بإمكاني تصدير سوء الحظ المُقنن إلى جميع دول العالم،  أؤمن بأن عوائد التصدير لهذه التجارة ستلقي نفس سوء طالعي، تموت غرقاً او حرقاً أو تسرق.  

تقاطعني الروشتات....وفي لحظة اضطراب فقدت جهاز التحكم،  قناة النيل الأزرق، برنامج الصبـاح... و صوت البلابل يصدح (نور بيتنا،،  و شارع بيتنا... يوم ما جيتنا... يا الهليت فرحت قلوبنا...) ، ابتسمت و تذكرته... احسست أن العالم في بعض الأحيان يحسن معاملتي.... سوء الحظ على وشك التغير... أو هكذا حلمت.  

قررت الخروج من الصيدلية لحظة للإتصال ، فبالرغم من أن (المرء لا يكون بخير إلا في وطنه)  إلا أنني لم أكن لأتصرف بطبيعتي في ذلك المكان(الصيدلية، الوطن الثاني).  
دق الجرس ثم فتح الخط فاصابني الخَرَس... 
  - اتفضل؟!
  - = اتفضل وين؟  إنتِ يا بت بتبلعي حاجة من الرفوف الوراك دي ولا شنو؟اتفضل  شنو؟ انا واقف في باب بيتكم ؟! 

  ضحكت كثيراً...اعتذرت، سألني عن وجود امصال للعقارب و الثعابين من أجل مزارعيه... أجبته بالنفي.. شكرني ثم اردف قائلاً:-
  - بتطلعي الساعة كم من الصيدلية؟!
 = ليه بتسأل؟! 
  ارتفع ضغطه على ما يبدو ... 
  - انا آسف...انسي السؤال و شكراً . 

فكرت بأنه (نموذج أصيل لشاب سوداني) أفهمهم تماماً أكثر من فهمي للآثار الجانبية لدواء ديكلوفيناك الصوديوم.  سأتجاهله... سـأدعي السرور.. أ... كيف اتصرف؟!  ماذا سيظن بي؟  مُعقدة؟  مُتخلفة؟ تعاني جنون الإرتياب؟  لا يهم انا ملكتها جميعاً. 

عدت إلى المنزل متأخرة ، كعادتي و عادة سواقي وسائل النقل،  الذين يتذرعون بسوء الأجواء، و ارتفاع درجات الحرارة للحصول على قيلولات طويلة و مستفزة.  

أنزلتني العربة في المظلة (حيث الموقف).. وجدت عم داؤود جالساً تحت شجرة (سم الفأر)  كما يحلو لهم تسميتها يقرأ في جريدة واضعاً نظارته القديمة و رجلاً فوق رجل... ذهبت و القيت السلام عليه، شربت من السبيل (الذي أوقفه لزوجته)، مر بجانبنا أحد الشباب (مفلفلي الشعر) و الضاربين (السيستم) و اللابسين مطاط على معاصمهم... انزل عم داؤود الجريدة و النظارة و نظر للشاب بنصف عين واحدة،  فأعترض خفيف الظل ذاك و سأله 
"شنو يا عم داؤود بتعاين بنص عين كدة...؟!"
أجابه الآخر مسرعاً: مش لما تملا العين الواحدة دي.. اشوفك بالتانية كمان.  
اضحكني الموقف كثيراً، لطالما أعجبتني بديهته، واصلت طريقي وفي بداية الشارع لمحت سيارته عند منزلنا،  دق قلبي،  توجهت بخطى منزعجة ناحية المنزل، وجدتهم في طريقهم للخروج هو و والدته،  تبكمت، ألقيت التحية،  انشغلت والدتي بالعرف السوداني الختامي للونسة و هو (ونسة خشم الباب)، اقترب نحوي،  انحنى قليلاً ناحيتي ثم قال بصوت منخفض:- المرة الجاية ما تجاوبي سؤال بي سؤال... 
و اتجه ووالدته نحو السيارة و غادرا بهدوء.